كلمة الشاعر دانيال لويرس بمناسبة اليوم العالمي للشعر "القصيدَةُ مثل نُفّاخة"-دانيال لويرس-فرنسا
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

كلمة الشاعر دانيال لويرس بمناسبة اليوم العالمي للشعر
"القصيدَةُ مثل نُفّاخة"

 بطلب من بيت الشعر في المغرب وبمناسبة اليوم العالمي للشعر، خص الشاعر والناقد الفرنسي دانيال لويرس البيت بالكلمة التالية:


  الشِّعْر؟ لا شكَّ في أنَّ فِكرَتي الأولى عنه أدينُ بها لِوالدي. لا دَخْلَ لِلمَدْرَسَةِ (إذ لطالما كرهْتُ الكتُب) بتَشكُّل هذهِ الفِكرةِ، التي تعودُ إلى تِلك اللحظاتِ التي فيها تابَعْتُ، وأنا بَعْدُ طِفل، تَنْظيمَ والِدي، في مُناسَباتٍ عديدة، إطلاقاً هائِلاً للنُّفّاخَات. في لحظةٍ مُحَدَّدَة، كانت النُّفّاخاتُ تَنْطلِقُ مُحَلِّقة مِنَ السَّاحَةِ الفسيحَةِ للقصْر. نُفّاخاتٌ بمُختلفِ الألوان؛ مِنْها الدِّيناميَّة والبَطيئة، ولكنَّها جَمِيعَها تَتَدافعُ نحْو السَّماء. بهذهِ النُّفّاخاتِ كانتْ تُعلَّقُ بطاقة جَوابيَّة، مُعَدَّة، بتاريخٍ تقريبيّ وتحديدٍ دقيقٍ لِمَكان الوُصُول، كيْ يُعَادَ إرْسالُها إلى والِدي. النُّفّاخة، التي كانتْ تَنْأى أكثر عَنْ نُقطةِ الانطلاق، كانتْ تُخوِّلُ لِصاحِبها سَفراً – حقيقيّاً – إلى أمستردام، أو برسلونة، أو البندقية.
   يَومِيّاً كانَ والِدي يَتَلقى بطاقاتٍ جَوابيَّة. ومَعَ مُرُورِ الزَّمَن، كانتِ النُّفّاخاتُ تَتَوَغَّلُ لِتبلُغَ البُلدانَ الأجْنبيَّة التي كانتْ تُغَذي أحْلامي المُحْتَدِمَة عَن الأماكِن القصِيَّة. أليْسَ هذا، على نحْوٍ دقيق، هو الشِّعْر؟ إنّه تَحْليقٌ، صُعُودٌ يَعْقبُهُ أحياناً سُقوطٌ سَريعٌ وإخفاقٌ حارقٌ (آهٍ لإيكار)، وأحياناً هو مَنْفذ بطُولٍ هائِلٍ، انفِتاحٌ على اللانِهائيّ...
   القصيدةُ، بالنِّسْبَة إليّ، هي دَوْماً سَفر. هي ذي حالُ الشاعِر أيضاً: فقد جابَ بودلير، وهو بَعْدُ شابّ، العالَمَ، وبَلغَ رامبو عَدَن، وزارَ هُنري ميشو الإيكواتور والصين...ومَع ذلك فميشو ذاتُهُ هو مَنْ يَتَحَدَّثُ عَنْ "فضاءِ الدَّواخِل". ذلك أنَّ السَّفرَ يُمْكِنُ أنْ يَنْحَصِرَ في اسْتِكشافِ "البَعيدِ الدَّاخِليّ". وبالجُمْلة، فالشِّعْرُ يَنفُرُ مِنَ المُبْتَذل اليَوْميّ (خِلافاً لارْتياحِ الروائيّين إليه)، رَغبتُهُ في الفِرار مِنَ الواقع، للسُّمُو بهِ أفضل، لا تَتَوَقف. يُمْكِنُ لِلشِّعْر، إذن، أنْ يأخُذ مَلامِحَ سَفرٍ روحِيِّ، وسَفرٍ لَعِبيٍّ، وسَفرٍ إيروسيٍّ، وسَفرٍ لُغويٍّ، لكنَّهُ يَتَماهَى دَوْماً مَعَ مَسارٍ، معَ طريقةِ "دَوَرانٍ في قلْب العَضَّة" كما قال رامبو، أو مَع "اللازَوَرْد" الذي حدَسَهُ مالارمي. الأماكنُ القصِيَّة، بالنسْبَة إلى الشِّعْر، هي المَجْهول والجَديد. وبقدْر ما يَتَصدَّى الشاعرُ لِنفسِهِ بقدْر ما يبْلغُ القصِيّ، أي عندما يُقاوم، ويقولُ: لا، مُوقّعاً باسْمِه. فالضَّوْءُ لا يَتَحَصَّلُ إلاّ بمُواجَهَةِ الذات.
   في قِصَّةِ والِدي، يَسْتَهْويني كثيراً أنَّ بَعْضَ النُّفّاخاتِ كانتْ تَحُطُّ في البُلدان الأجنبيَّةِ النائِيَّة. وَمَنْ يَعْثُرُ على البطاقةِ الجَوابيَّة ويُعيدُ إرْسالَها شبيهٌ بقارئ؛ ذلك الصَّديقُ المَجْهولُ الذي يَتَأثرُ فجْأةً بشيْءٍ غريبٍ طائِر أخْفقَ على أرْضِه، بيْن يَدَيْه وتَحْتَ نَظره. شيْءٌ هو، في آن، نِداءٌ واستِجابَة برَجْعٍ مُتَبَادَل. فكلُّ نُفّاخَةٍ مَنذورَةٌ لِلقاءِ إنْسانٍ آخَر، لِجَعْلِهِ يَحْلم، إدْخالِهِ إلى أسْرار لغَةٍ أخْرَى ومُساعَدَتِهِ على رَفْضِ الحُدُودِ والطابوات والمَحْظورات.
   حُرّاً أحِبُّ الشِّعْرَ أنْ يَكون، مُحَلِّقاً لا مُقيَّداً مثل كلْبٍ إلى رَسَن، ودَوْماً مُنْطلِقاً "إلى الأمام" كيْ يَتَغنَّى بالحَقيقيِّ، يَتَغنَّى بالشَّمْس والليْل والحُبّ والموت، ولكن أيضاً كيْ يَتَغنّى بوَهْم الحَقيقيِّ، بشَمْس الليْل، بالحُبِّ حتّى الموت وبمَوْتِ الحُبّ. الشِّعْرُ، خِتاماً، صَوْتٌ سِرِّيٌّ حَميمٌ، وكوْنِيٌّ، مع ذلك، على نَحْوٍ خارق.
   في نُفّاخَةٍ هَشَّةٍ تَكمُنُ كلُّ المُغامَرَةِ الإنسانيَّة؛ نُفّاخَةٍ عابرَةٍ وعَنِيدَة. 



 
  دانيال لويرس-فرنسا (2012-03-15)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

كلمة الشاعر دانيال لويرس بمناسبة اليوم العالمي للشعر

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia